< قائمة الدروس

الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

35/06/23

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : حجية القطع
تحصّل مما ذكرنا، أن حجية القطع بمعنى منجِّزيته إذا اصاب الواقع ومؤمِّنيته إذا أخطأ
الواقع، والمنجزِّية صفة ذاتية للقطع، فلا يمكن انفكاكها عنها، وكذلك المؤمِّنية صفة ذاتية للقطع، وحجية القطع بمعنى المنجزية والمؤمنية منوطة بتحقق الكبرى والصغرى معا، أما الكبرى وهي مولوية المولى أي حق الطاعة للمولى فإن حق الطاعة للباري تعالى ذاتي وثابت في الواقع وضروري وأمر فطري، فإنه لازم مولويته ومولويته ذاتية، واما مولوية النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام فهي جعليِّة، وفي السعة والضيق تتبع الجعل، فإذا كان جعلها مطلق فهي موسعة وإلا فهي مضيقة .
فإذن الولاية الجعلية تتبع الجعل في السعة والضيق، واما ولاية الله عزّ وجّل فهي ذاتية، فهي تقتضي حق الإطاعة، وحق الإطاعة ذاتي للمولى عزّ وجل، والمفروض ضرورية وفطريّة حق الطاعة للمولى عزّ وجل .
واما الصغرى وهي القطع بالحكم المولوي اللزومي، فإذا تحققت الصغرى وهو القطع بحكم مولوي لزومي، انطبقت عليها الكبرى، ومع انطباق الكبرى عليها يتصف القطع حينئذٍ بالحجية وهي المنجزية والمعذرية، ولا يتوقف اتصاف القطع بالحجية على توسيط أي مقدمة خارجية اخرى، كقاعدة حسن العدل وقبح الظلم او ما شاكل ذلك، فإنه يكفي في اتصاف القطع بالحجية تحقق الكبرى وتحقق الصغرى، والكبرى ثابتة بالضرورة ومع تحقق الصغرى وهي القطع بالحكم المولوي اللزومي، تنطبق عليها الكبرى فيتصف القطع بالحجية وهي المنجزية إذا اصاب الواقع والمعذرية إذا أخطأ الواقع، هذا هو معنى حجية القطع .
ثم إنَّ هنا مسألة أخرى، وهي مسالة أن الأصل الأولي في الشبهات الحكمية هل هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان او قاعدة حق الطاعة ؟
المعروف والمشهور بين الأصوليين هو الأول، وذهب بعض المحققين الى ان الأصل الأولي هو قاعدة حق الطاعة، وقد فصلنا الكلام في ذلك في أول بحث البراءة، وسوف يأتي الكلام هناك في هذه المسألة .
ثم ان حجية القطع بمعنى المنجزية والمعذرية هل يمكن الردع عنها ومنع القاطع عن العمل به او لا يمكن ذلك؟
فيه خلاف .
فذهب الاخباريون الى عدم المانع من الردع عن حجية القطع ومنع القاطع من العمل بقطعه، ولهذا خصّوا حجية القطع بالقطع الحاصل من الكتاب والسنة، واما القطع الحاصل من غيرهما فلا يكون حجة .
واما الأصوليون فقد اتفقوا على انه لا يمكن الردع عن حجية القطع ومنع القاطع عن العمل بقطعه، وقد استدلوا على ذلك بوجهين :
الوجه الأول : أنَّ الردع عن حجية القطع ومنع القاطع عن العمل بقطعه يستلزم اجتماع الضدين اما مطلقا إذا كان القطع مطابقا للواقع او بنظر القاطع إذا كان مخالفا للواقع، فإذا فرضنا ان المكلف قطع بحرمة شرب هذا المائع اما من جهة علمه بانه خمر او من جهة علمه انه مال الغير أي مغصوب، فهو يقطع بحرمة شرب هذا المائع ففي مثل ذلك إذا رخّص الشارع في شربه دل هذا الترخيص على جواز الشرب بالمطابقة وعلى ردع حجية القطع بالالتزام بمعنى عدم حجية القطع بحرمة شرب هذا المائع .
وهل يمكن الترخيص من المولى او لا يمكن ؟
المشهور بين الأصوليين انه لا يمكن، لأنه يستلزم اجتماع الضدين في شيء واحد وهو اجتماع الحرمة والترخيص في شرب هذا المائع، فإن لازم ذلك ان شرب هذا المائع حرام ومباح معا، وهذا لا يمكن إذا كان القطع مطابقا للواقع واما إذا كان القطع مخالفا للواقع بان لا يكون هذا المائع في الواقع خمرا او لا يكون مال الغير وهو يقطع بانه مال الغير ويقطع بحرمة شربه وعندئذٍ يلزم اجتماع الضدين وهما الحرمة والترخيص في شيء واحد وهو الشرب في نظر القاطع وهو مستحيل ايضا .
أما الأول فلأن اجتماع الضدين مستحيل، واما الثاني فلأنه لا يمكن جعل حكمين متضادين في نظر القاطع لأنه لغو ولا يكون محركا وداعيا، فإن المولى إذا رخص في شرب هذا المائع مع قطع المكلف بان شربه حرام لزم منه جعل حكمين متضادين في نظر القاطع وهو مستحيل .
الوجه الثاني : ان الحجية بمعنى المنجزية والمعذرية لازم ذاتي للقطع أي ذاتي باب البرهان وحينئذٍ فان أُريد بالردع عن حجية القطع سلبها عنه فهو مستحيل، لاستحالة سلب الذات عن لوازمها الذاتية كسلب الزوجية عن الأربعة او سلب الامكان عن الممكن .
فإذن سلب الحجية أي المنجزية والمعذرية عن القطع مستحيل .
وإن أُريد من ذلك جعل ما يخالف حكم العقل، فيرد عليه انه مناقض لما يحكم به العقل من وجوب اتباع القطع، ولا يمكن جعل ما يخالف حكم القطع، فإنه بنظر العقل من اجتماع المتناقضين أي ان المولى أمره بالنقيضين إذ القطع بحرمة شرب هذا المائع معناه ان المولى حرمه عليه فإذا رخص في شربه فمعناه انه لم يحرمه وهذا في نظر القاطع من الأمر بالنقيضين وهو مستحيل .
هكذا استدلوا على استحالة الردع عن حجية القطع ومنع القاطع عن العمل بقطعه .
ولنا تعليق على كلا الوجهين :
أما الوجه الأول ، ففيه صور :
الصورة الأولى : أن المكلف إذا قطع بحكم إلزامي كالحرمة كما إذا قطع بحرمة شرب هذا الاناء، والمولى رخص بشربه بترخيصٍ نفسيٍ لا طريقي .
الصورة الثانية : نفس هذه الصورة ولكن المولى رخص في شرب هذا الاناء بترخيصٍ طريقيٍ .
الصورة الثالثة : عكس الصورة الثانية، كما إذا قطع المكلف بان شرب هذا المائع مباح ولكن نهى المولى عن شربه .
فإذن في الوجه الأول تتصور هذه الصور الثلاث .
اما الصورة الأولى فيلزم منها اجتماع الضدين في مرحلة المبادي، فإنَّ الحرمة تكشف عن ان مُتعَلَّقِها يشتمل على مفسدة ملزمة، لان الحرمة تابعة للمفسدة الملزمة في متعلقها، والترخيص إذا كان نفسيا فهو يكشف عن وجود مصلحة في متعلقه، فيلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد وهو شرب هذا الاناء، وهذا مستحيل .
فإنَّ اجتماع الوجوب بما هو اعتبار مع الحرمة بماهي اعتبار في شيء واحد لا مانع منه، لأن الاعتبار ليس بشيء ولا وجود له في الخارج إلا في عالم الاعتبار والذهن، واجتماع الضدين في مرحلة المبادي هو الذي يلزم منه اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد وهو شرب هذا الاناء، وهذا مستحيل، فعندئذٍ إذا علم المكلف بحرمة شيء فلا يمكن للمولى الترخيص في ارتكاب هذا الشيء بترخيصٍ نفسيٍ .
وأما الصورة الثانية، فالترخيص المفترض فيها من المولى طريقي، والترخيص الطريقي لم ينشأ عن وجود ملاك في متعلقه في مرحلة المبادي، فلا يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد في مرحلة المبادي، فإذن لا مانع من هذا الترخيص وذلك لأن حكم العقل بان القطع منجز للواقع على تقدير الاصابة ومعذر على تقدير الخطأ ليس بنحو العلية التامة بل هو حكم تعليقي، أي معلق على عدم إذن الشارع في الترك فحكم العقل في موارد الطاعة حكم تعليقي، كحكمه بوجوب الطاعة وقبح المعصية فان حكم القطع بوجوب الطاعة انما هو من جهة حق الطاعة وحكم العقل بقبح المعصية من جهة انه ظلم وتفويت لحق المولى وسلب المولى عن حقه وهذا الحكم حكم تعليقي، فإذا إذن المولى في الترك او في الفعل وكان جادا في إذنه فهو كاشف عن ان المولى يرفع يده عن حقه وهو حق الطاعة كما إذا إذن في ترك الصلاة وكان جادا في ذلك فهو يكشف عن ان المولى رفع يده عن حقه ومعه لا يجب على المكلف الاطاعة، فحكم العقل بوجوب الاطاعة انما هو من جهة ثبوت حق الطاعة للمولى، وكذلك حكم العقل بان القطع منجز للواقع على تقدير الاصابة ومعذر عن الواقع على تقدير الخطأ، هذه الأحكام جميعا إنما هي معلقة على عدم إذن المولى في ترك الامتثال وعدم رفع المولى يده عن حقه، ومع رفع المولى يده عن حقه وهو حق الطاعة ينتفي حكم العقل بانتفاء موضوعه فلا موضوع حينئذٍ لحكم العقل .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo