< قائمة الدروس

الأستاذ آيةالله محمداسحاق الفیاض

بحث الأصول

35/06/12

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : القطع
تحصّل مما ذكرنا، إنَّ عملية الإجتهاد واجبةٌ كفاءيةٌ على الكل، ولابد في كل عصر من قيام جماعة بدراسة الفقه والأصول حتى يصلوا الى هذه المرحلة، وتمكنهم من عملية الأستنباط، حيث لا يمكن الوصول إلى الأحكام الشرعية مباشرة إلا بمقدار قليل منها وهي الأحكام الضرورية والأحكام القطعية والتي وصلت الى المكلفين مباشرة وبدون توسط، ولكن نسبة هذه الأحكام الى الأحكام النظرية لا تتجاوز عن 5- 6 بالمائة بنسبة تقريبية، وإلا فسائر الأحكام أحكامٌ نظريةٌ، ولا يمكن الوصول اليها مباشرة ألا بعملية الإجتهاد، فإذن عملية الإجتهاد أمرٌ ضروري ٌ، وهو مقتضى بعث الرسل و إنزال الكتب وبيان الأحكام الشرعية، فإنَّ إهمال الأحكام الشرعية غير جائز بلا شبهة، لإنه خلف فرض إرسال الرسل و إنزال الكتب و بيان الأحكام الشرعية، ومن هنا يظهر أن عملية التقليد - أيضاً- عمليةٌ ضروريةٌ، لإنَّ العامي لا يمكنه الوصول الى الأحكام الشرعية مباشرة، فلا يجوز له الأهمال في الأحكام الشرعية ولا بدّ له من العمل بها، وهذا لا يمكن إلا بالرجوع الى المجتهد والعمل بفتاويه .
فإذن عملية الإجتهاد و عملية التقليد عمليتان ضروريتان ، من جهة أن ترك هاتين العمليتين يصدق عليه ترك للشريعة المقدسة وإهمالها وهو خلاف الضرورة .
وذكرنا أن للأحكام الشرعية أمران :
الأول : الإطاعة و الإمتثال لأوامر الله تعالى ونواهييه .
الثاني : أنَّ للأحكام الشرعية دورٌ تربويٌ حيث أنها تزود الإنسان بالأخلاق العالية والملكات الفاضلة،فإنَّ هذه الأعمال الشرعية في الخارج مضافاً الى أنها توجب إعتدال الإنسان في تعامله مع الناس توجب تزويد إيمانه وملكاته الفاضلة وأخلاقه الحميدة، وهذا مما لا شبهة فيه .
فإذن للأحكام الشرعية دور كبير في ذلك، بإعتبار أن علاقة الإنسان بها علاقة روحية ومعنوية، ولها تأثير معنوي وروحي، ولهذا لا تتأثر بتأثير الحياة اليومية المادية، ولا تتطور بتطورها، وليس علاقة الإنسان بالعبادات كعلاقة الإنسان بالطبيعة، فإنَّ علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة مادية، وتتطور بتطور المادة وتتوسع بتوسعها، وأما الأحكام الشرعية فلا فرق فيها، فلا فرق بين الصلاة في عصر الجاهلية والصلاة في هذا العصر، وكذلك الصوم والحج وماشاكل ذلك من الأحكام الشرعية، بإعتبار أن علاقة الإنسان فيها علاقة روحية وهي مما لا تختلف بإختلاف الأزمنة وإختلاف المادة .
ومن هنا لافرق بين أن تكون عملية الإجتهاد حاصلة في الأحكام المشتركة بين المجتهد وغيره وبين أن تكون في الأحكام المختصة بطائفة خاصة كأحكام النساء، فكما تجب عملية الإجتهاد في الأولى كذلك تجب في الثانية أيضاً، وإلا لزم خلف فرض أن الغرض من تشريع هذه الأحكام هو الإمتثال والإطاعة، لأن لها دور أساسي في تزويد الناس بالإيمان والأخلاق والملكات الفاضلة، فإذن لا فرق في وجوب عملية الإجتهاد في الشريعة المقدسة بين الأحكام المشتركة والأحكام المختصة، ومن هنا يتبين أن عملية الإجتهاد وعملية التقليد عمليتان ضروريتان في الشريعة المقدسة، سواء قلنا بأنها من قبيل الرجوع الى أهل الخبرة أو لا، حيث لا يتمكن العامي بدونها من الوصول الى الأحكام الشرعية مباشرة، ومع التنزل عن ذلك لاشبهة في أن عملية التقليد من صغريات قاعدة الرجوع الى أهل الخبرة والبصيرة، هذا من ناحية .
ومن ناحية أُخرى، أنَّ عملية الإجتهاد لا تتوقف على وجود الموضوع في الخارج، فإنَّ عملية اإلإجتهاد إنما هي في الأحكام الشرعية والأدلة في مرحلة الجعل، والمفروض أن جعل الأحكام الشرعية هو بنحو القضايا الحقيقة، وفي القضايا الحقيقة قد أُخذ الموضوع مفروض الوجود في الخارج، سواء أ كان موجوداً فيه أم لم يكن موجوداً فيه، وكذلك عملية الإجتهاد، فإنَّ المجتهد قد فرض وجود الحائض أو النفساء أو غير ذلك وينظر الى الأدلة المانعة من دخول الحائض الى المسجد، أو الأدلة المانعة من مسها لكتابة القرأن أو الأدلة المانعة لها من الدخول في كل ماهو مشروط بالطهارة، كالصلاة ونحوها، وهذه الأدلة لامحالة وردت بنحو القضية الحقيقية أي قد أُخذ الموضوع فيها مفروض الوجود في الخارج سواء أ كان موجوداً في الخارج أو لم يكن موجوداً، فعملية الإستنباط من الأدلة لا تتوقف على وجود الموضوع في الخارج، فيقوم المجتهد بالإستنباط بعد التحقيق والنظر الى تلك الأدلة، فإذا أثبت أن تلك الأدلة تامة من جميع الجهات أفتى بحرمة دخول الحائض في المسجد مثلاً، أو فُرض الماء المتغير بأحد أوصاف النجس فرضٌ لا وجود له فعلاً في الخارج، وينظر الى أدلة ذلك كالروايات التي تدل على أن الماء إذا تغير بأحد أوصاف النجس تنجس، أو أن الماء المتغير بأحد أوصاف النجس نجس، وبعد الفحص والتحقيق فيها وإثبات أنها تامة يقوم يتطبيقها على عناصرها الخاصة في الفقه، وهذه هي عملية الإستنباط،إذ هي عبارة عن تطبيق القواعد العامة على عناصرها الخاصة في الفقه، ونتيجة هذا التطبيق مسألة فقهية، فيفتي أن الماء إذا تغير بأحد أوصاف النجس تنجس وأن كان كراً أو جارياً، ولو فرض زوال تغيره بنفسه – لا بإتصاله بالكر أو بالماء الجاري – فيكون هذا منشأ للشك في بقاء النجاسة من جهة الشك في أن صفة التغيّر هل هي حيثية تعليلية وموضوع النجاسة هو طبيعي الماء وليس صفة التغير جزء الموضوع أو أنها حيثية تقيدية حتى ينتفي الموضوع بإنتفائها، فهذا الشك موجب للشك في بقاء النجاسة بعد إحراز أن هذه الصفة حيثية تعليلية وليس حيثية تقيدية بل هي حيثية تعليلية، و لكن منشأ الشك في البقاء هل هي حيثية تعليلية حدوثاً وبقاءً أو حدوثاً فقط، فهذا منشأ للبقاء، فيستصحب وأن لم يكن الماء المتغيّر موجوداً، ومن هنا تكون فتاوي المجتهد أيضاً بنحو القضايا الحقيقة، وليس بنحو القضايا الخارجية، كما إذا فرض وجود الحائض وحكم بحرمة دخولها في المسجد ولكن بعد أنقطاع الدم وقبل الأغتسال يشك في بقاء هذه الحرمة أو أنها زالت بأنقطاع الدم، فلا مانع من إستصحاب بقائها والأفتاء بها، كل ذلك بنحو القضية الحقيقة .
والخلاصة : أنَّ عملية الإستنباط تتوقف على عنصرين :-
العنصر النظري : ويتكفل به علم الأصول، فأنه موضوع لتكوين القواعد العامة المشتركة في الحدود المسموح بها شرعا .
العنصر التطبيقي : ويتكفل به علم الفقه، فهو موضوع لتطبيق القواعد العامة الأصولية على عناصرها الخاصة .
ومن هنا تكون نسبة علم الفقه الى علم الأصول نسبة العلم التطبيقي الى العلم النظري، هذا كله في عملية الإجتهاد والتقليد، ومنه يظهر عدم الفرق في صدق أهل الخبرة بين أن تكون الأحكام الشرعية مشتركة بين المجتهد وغيره وبين أن تكون مختصة بطائفة، فإنه على كلا التقديرين يصدق على المجتهد بأنه من أهل الخبرة، فلا شبهة في صدق أهل الخبرة على المجتهد في أحكام الحيض والنفاس والإستحاضة، مع أن تلك الأحكام مختصة بطائفة النساء .
بقي هنا أمران :
الأول : هل أن تقليد الأعلم واجب أو غير واجب ؟
الثاني : هل يجوز لغير الأعلم إذا علم أنه غير أعلم الأفتاء أو لا يجوز له ؟

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo