< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأصول

39/03/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الخامس: حجيّة القطع

الكلام في حجية القطع.للقطع أربع خصائص:

الخصيصة الأولى إنه أمر نفساني قابع في ذات النفس الإنسانية.

الأمر الثاني الكاشفية فالقطع طريق الى الواقع وكاشف عنه

الثالث المحركية فمن يقطع بوجود ماء وهو ظمآن يتحرك نحو ذلك الماء.

الرابع الحجية، والحجية لها عدة معاني والمراد بها هنا الحجية الأصولية والحجية الأصولية لها معنيان أيضاً ونريد بها هنا المنجزية والمعذرية، أي أن القطع يُنَجِزُ التكليف ويدخل التكليف في الذمة والعُهدة إذا قطعت بثبوته والقطع معذر أي أنه يخرج التكليف من العهدة والذمة إذا قطعت بانتفاء التكليف، هذه سمات أربع، أمر نفساني، الكاشفية، المحركية، الحجية.

أما الأمر الأول وهو أن القطع أمر نفساني فخارج عن مباحث علم الأصول

وأما الأمر الثالث وهو المحركية فإن أريد بها المحركية التكوينية فهذا أيضاً خارج عن علم الأصول، ما يهمنا في علم الأصول تحديداً هو الأمر الرابع وهو الحجية أي البحث عن منجزية ومعذرية القطع.

ولربما نحتاج الى البحث عن الأمر الثاني وهو الكاشفية، من هنا عقد السيد الخوئي "رحمه الله" في مصباح الأصول البحث في ثلاث جهات:

الجهة الأولى في أن طريقية القطع هل هي ذاتية أو جعلية، يعني انكشاف المقطوع به هل هذا الإنكشاف ذاتي للقطع أم هذا الإنكشاف مجعول بجعل جاعل ووضع واضع، هذه هي الجهة الأولى.

الجهة الثانية في حجية القطع أي منجزية القطع ومعذريته بمعنى أن القطع منجز للواقع في صورة المطابقة ومعذر عن الواقع في صورة المخالفة، هل هذه الحجية من المنجزية والمعذرية هل هذه الحجية ثابتة بحكم العقل أو هذه الحجية ثابتة بحكم العقلاء أو هذه الحجية هي من لوازم العقل الذاتية، هذه مباني ثلاثة لا شك ولا ريب إن القطع حجة ولكن حجية القطع هل هي بحكم العقل أم بحكم بناء العقلاء أم أن الحجية من لوازم القطع الذاتية واللازم الذاتي لا ينفك عن ملزومه.

وقد خلط الشيخ الأعظم الأنصاري "رحمه الله" في فرائد الأصول [1] ، بين الأمر الأول والثاني بين الكاشفية وبين الحجية، بين كاشفية القطع وبين حجية القطع، قال الشيخ الأعظم "رضوان الله عليه" في فرائد الأصول لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجوداً، هنا وجوب المتابعة ووجوب العمل بالقطع فرع كاشفية القطع أو فرع منجزية القطع؟ وجوب العمل فرع الحجية حتى لو كان القطع كاشفاً إذا لم يكن حجة لا تجب متابعته، إذاً وجوب الجري على وفق القطع ووجوب العمل بالقطع فرع حجية القطع لو لم يكن القطع حجة لا يجب العمل به حتى لو كان كاشفاً.

إذاً وجوب العمل فرع حجية القطع، نعم حجية القطع هل هي فرع كاشفيته أو لا هذا الذي يقع البحث فيه ولكن وجوب العمل وجوب التحرك هذا فرع المنجزية والمعذرية فرع الحجية الأصولية للقطع لكن الشيخ الأنصاري "رحمه الله" علق وجوب العمل على الكاشفية.

لاحظ عبارة الشيخ الأنصاري قال لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجوداً، لماذا؟ قال لأنه بنفسه طريق الى الواقع وليست طريقيته قابلة لجعل الشارع إثباتاً أو نفياً، من هنا قال السيد الخوئي "رحمه الله"، إن الشيخ الأنصاري "قدس الله نفسه الزكية" قد خلط بين الأمر الأول وهو الكاشفية وبين الأمر الثاني وهو الحجية.

الجهة الثالثة بعد أن فرغنا عن حجية القطع هل يمكن للشارع أن ينهى عن العمل بالقطع أو لا؟ هل يمكن للشارع أن يردع عن العمل بالقطع أو لا؟ هذه مباحث ثلاثة لجهات ثلاثة الأولى كاشفية القطع، الثانية حجية القطع، الثالثة إن كان الردع عن العمل بالقطع.

أما الجهة الأولى وهي كاشفية القطع فأكثر أعلام العصر يرون أن كاشفية القطع ذاتية وعليه رأي الأعلام الخمسة الشيخ الأعظم الأنصاري والآخوند الخراساني والمحقق النائيني والمحقق الأصفهاني والمحقق الشيخ آقا ضياء الدين العراقي، وهكذا أكثر أعلام العصر بل هو المشهور بين الأصوليين وعليه السيد أبو القاسم الخوئي والسيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر وخالف في ذلك الإمام الخميني "رضوان الله عليه" [2] .وهكذا في جواهر الأصول تقرير السيد اللنگرودي[3] ، فقال الإمام الخميني "رضوان الله عليه" أن الكاشفية ليست ذات القطع واستدل على ذلك قال القطع قد يُخطئ وبالتالي من خطأ القطع نكتشف أن القطع لا يساوي الإنكشاف التام فما أكثر القاطعين الذين اكتشفوا خطأ قطعهم وفيه، إن المراد أن القطع كاشف بنظر القاطع فالقاطع يرى أن قطعه كاشف تام عن الواقع وإن لم يكن في الواقع كاشفاً تاماً، وبالتالي القطع قد يطابق الواقع وقد لا يطابق الواقع، إذاً بحثنا عن القطع بنظر القاطع وليس مطلق القطع لذلك نقول القطع قد يطابق الواقع وقد لا يطابق الواقع.

السيد الخوئي "رضوان الله عليه" يقول الصحيح إن حقيقة القطع نفس الإنكشاف فذات القطع هو ذات الإنكشاف لأن أستاذه الميرزا النائيني "رضوان الله عليه" له قولان:

القول الأول في دورته الأولى فوائد الأصول تقرير الشيخ محمد علي الكاظمي ذهب الى أن الكشف لازم للقطع فالطريقية والكاشفية من لوازم القطع وليست هي عين القطع بينما ذهب في دورته الثانية التي قررها السيد الخوئي "رحمه الله" في أجود التقريرات الى أن القطع هو عين الإنكشاف وليس الإنكشاف من لوازم القطع.

إذاً الميرزا النائيني في دورته الأولى جعل الطريقية من لوازم القطع، يراجع فوائد الأصول[4] ، وفي دورته الثانية جعل الطريقية عين القطع، يراجع أجود التقريرات.[5]

طبعاً الميرزا النائيني في دورته الأولى فوائد الأصول أشار الى أن الطريقية والكاشفية من لوازم القطع ثم ترقى بل عين القطع يعني ذكر أيضاً القول الذي ذهب إليه في الدورة الثانية، لذلك السيد الخوئي يقول أما الجهة الأولى فالصحيح فيها ناظر الى هذا القول إذا قال فالصحيح يعني هناك خلاف بين الأعلام، أستاذه له قولان السيد الخوئي يقول ان الكاشفية والطريقية هي عين القطع وليست من لوازم القطع الذاتية، فحقيقة القطع عين الإنكشاف وذات الإنكشاف، والذاتي لا يعلل ولا يكون قابلاً للجعل، لا بالجعل البسيط ولا بالجعل المركب والمراد بالجعل البسيط مفاد كان التامة والمراد بالجعل المركب مفاد كان الناقصة، تقول كانت الشمس يعني وجدت الشمس ظهرت الشمس وأحياناً تقول كانت الشمس مشرقة هذا جعل توليفي كما يقولون يعني عندنا الشمس المجعول الأول والثاني الإشراق.

فالذاتي لا يكون قابلاً للجعل بجميع أنحاء الجعل لا بالجعل البسيط مفاد كان التامة وهو الجعل المتعلق بمفعول واحد ولا بالجعل المركب وهو الجعل المتعلق بمفعولين ما يعبر عنه بالجعل التأليفي مفاد كان الناقصة أيضاً هذا الجعل لا بالاستقلال ولا بالتبع لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري والماهية هي هي بنفسها كما تعلمون في الفلسفة الماهية ما يقال في جواب الماهو الماهية هي هي بنفسها لا بجعل وبالتالي لا يتصور الجعل في الذات والذاتيات يعني لا يتصور جعل الذات أو جعل جزء الذات في الذاتيات فما معنى لجعل الإنسان إنساناً وهذا جعل الإنسان إنساناً هذا جعل بسيط أو مركب هذا بسيط مفاد كانت تامة كان إنساناً، ولا الجعل المركب تقول كان الإنسان ناطقاً كان الإنسان حيواناً كجعل الحيوانية للإنسان أو جعل الناطقية للإنسان، الحيوانية هذا جنس من ذاتيات الإنسان الناطقية هذا فصل من ذاتيات الإنسان.

يصح تعلّق الجعل البسيط بوجوده هذا معنى ما اشتهر من أن الله عزَّ وجل ما جعل المشمشة مشمشة جعل المشمشة مشمشة هذا جعل بسيط أو مركب؟ هذا جعل بسيط المقولة المشهورة إن الله ما جعل المشمشة مشمشة بل أوجدها يعني يمكن للمولى القدير أن يوجد القطع يعني يوجد عين الإنكشاف كما أن المولى العرفي يمكنه أن يوجد أيضاً القطع بإيجاد معداته ومقدمات القطع، فإذا أوجد المولى العرفي مقدمات القطع تحقق القطع هذا لا يعني أنه أوجد الإنكشاف في القطع بل بمعنى أنه حقق القطع أوجد القطع أوجد الإنكشاف لا بمعنى أنه أوجد الإنشكاف للقطع هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

وأما الجهة الثانية وهي لب البحث وهي الأهم في بحثنا الأصولي البحث عن حجية القطع يعني كون القطع منجزاً ومعذراً، وربما يعبر عن هذه الحجية أو المنجزية والمعذرية بوجوب متابعة القطع، الكثير من أبحاث الأصولية مثل البحث للسيد الإمام "رضوان الله عليه" يعبر بوجوب متابعة القطع، الأقوال فيها ثلاثة:

القول الأول للمحقق الأصفهاني وعليه مشهور الفلاسفة، الفلاسفة يقولون عندنا كبرى وهي الحُسن والقبح العقلائيين فالفلاسفة لا يرون أن الحسن والقبح عقليين بل يرون أن الحُسن والقبح من المشهورات العقلائية، لماذا؟ يقولون أن القضايا العقلية هي القضايا البرهانية والقضايا البرهانية تكمن في مواد البرهان من القضايا الأولية التي ذكرها الشيخ المظفر في بداية الجزء الثالث من كتابه المنطق.

فما لم تكن مواد القياس أولية لا يصدق على هذا البرهان أنه برهان وبالتالي قد تكون من القضايا المشهورات التي تبانا عليها العقلاء، وبالتالي هذه الكبرى عند الفلاسفة، الحُسن والقبح ليس عقلياً وإنما عقلائي فالعقلاء اشتهر بينهم قضايا وقد تبانوا عليها وبالتالي حجية القطع صغرى لكبرى التحسين والتقبيح العقلائيين.

إذاً المسلك الأول للمحقق الأصفهاني يقول حجية القطع ثابتة ببناء العقلاء إبقائاً للنوع وحفظاً للنظام، يعني لكي يبقى نوع الإنساني ولكي نحفظ النظام الاجتماعي للناس هناك قضايا إتفق عليها العقلاء وتبانو عليها فتكون حجية القطع من القضايا المشهورة باصطلاح المنطقيين، هذا البناء الذي تبانا عليه العقلاء كان بمرئى ومسمع من الشارع المقدس ولم يردع عنه إذاً أمضى بما أن الشارع أمضى بناء العقلاء إذاً يجب اتباعه.

خلاصة الرأي الأول للمحقق الأصفهاني ومشهور الفلاسفة إن حجية القطع ثابتة ببناء العقلاء لا بحكم العقل، السيد الإمام "رضوان الله عليه" بالنسبة الى الكاشفية أنكرها أنكر أنها ذاتية الى القطع بالنسبة الى حجية القطع قال إن القطع حجة ببناء العقلاء يعني السيد الإمام تبع المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية،[6] تبعه في حجية القطع.

إذاً السيد الإمام أنكر ذاتية الكشف للقطع في الجهة الأولى وأنكر ذاتية الحجية للقطع وهو قول السيد الخوئي الحجية لازم ذاتي للقطع وقال إن الحجية ثابتة للقطع لكنها ببناء العقلاء تبعاً للمحقق الأصفهاني ومشهور الفلاسفة.

القول الثاني للمحقق العراقي "رضوان الله عليه" في نهاية الأفكار[7] المحقق العراقي يرى أن حجية القطع إنما هي بحكم العقل فالحجية ثابتة للقطع بإلزام من العقل وبسبب حكم العقل التنجيزي.

القول الثالث للآخوند صاحب الكفاية والميرزا النائيني وتبعهما السيد الخوئي "رحمه الله" إن حجية القطع من اللوازم العقلية للقطع، لازم ذاتي للقطع واختار هذا الكلام صاحب الكفاية [8] حيث قال وتأثيره في ذلك لازم وصريح الوجدان به شاهد وحاكم، الى هنا أخذنا ثلاثة أقوال، القول الأول حجية القطع ثابتة ببناء العقلاء للمحقق الأصفهاني، القول الثاني حجية القطع ثابتة بحكم العقل وهو قول المحقق العراقي، القول الثالث حجية القطع لازم ذاتي للقطع لازم عقلي واختار هذا القول صاحب الكفاية والميرزا النائيني والسيد الخوئي فما هو الصحيح في المسألة؟

سيتضح ـ إن شاء الله في الدرس القادم ـ أن الصحيح ما ذهب إليه شهيد العصر السيد محمد باقر الصدر "رضوان الله عليه" وهو القول الرابع في المسألة ـ في المصادر التالية كتاب مباحث الأصول تقرير الدورة الأولى للسيد كاظم الحائري[9] ، ثانيا بحوث في علم الأصول تقرير السيد محمود الهاشمي [10] ، ثلاثه بحوث في علم الأصول تقرير الشيخ حسن عبد الساتر [11] ـ طبعا التقرير الرابع محاضرات في علم الأصول للشهيد الصدر الثاني السيد محمد محمد الصدر الى الآن لم يكتمل ولم يصل الى هذه المباحث ـ وسيتضح أن الشهيد الصدر "رضوان الله عليه" أسس لهذا القول الرابع لكن جذور هذا القول موجودة في كلمات المحقق العراقي "رضوان الله عليه" حينما قسّم حكم العقل الى قسمين حكم العقل التعليقي وحكم العقل التنجيزي، يمكن مراجعة مقالات الأصول للمحقق العراقي[12] ، وأيضاً يمكن مراجعة نهاية الأفكار للمحقق العراقي تقرير الشيخ محمد تقي البروجردي[13] هذا عناوين بحث الدرس القادم.

الآن نقرر ما أفاده المحقق الخوئي "رحمه الله" ونحن معه في مناقشة القول الأول والثاني ولكن نختلف معه في ترجيحه للقول الثالث ونميل الى ما مال إليه الشهيد السيد محمد باقر الصدر.

أما القول الأول وهو أن حجية القطع ثابتة ببناء العقلاء وهو قول المحقق الأصفهاني أستاذ السيد الخوئي ففيه أولاً إن حجية القطع ولزوم الحركة على طبق القطع ثابتة في كل زمان ومكان، ولو لم يكن فيه إلا بشر واحد وهو آدم "عليه السلام"، نبينا آدم "على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام" كان القطع عنده حجة مع أنه النوع الإنساني ما كان موجود إذا جعلنا حجية القطع فرع بناء العقلاء يعني لابد من وجود مجتمع عقلائي ثم يتبانى هذا المجتمع على حجية القطع والحال إن حجية القطع وجدانية أمر وجداني لا يحتاج الى بناء العقلاء وكان موجوداً مع عدم وجود المجتمع ولم يوجد إلا بشر واحد كان موجود، فلم يكن في هذا المجتمع عقلاء حتى يتبانا على حجية القطع ولم يكن هناك نوع إنساني حتى يجتمع العقلاء لحفظ هذا النوع الإنساني هذا أولاً.

وثانياً الأوامر الشرعية ليست كلها لحفظ النظام الاجتماعي بعضها يتعلق بحفظ النظام الاجتماعي مثل مباحث الحدود والتعزيرات والديّات والأمور المالية من خمس وزكاة، لكن بعض الأحكام الشرعية لا دخالة لها في حفظ النوع الإنساني فالصلاة التي هي عمود الدين لا دخل لها في حفظ النظم الاجتماعي فكيف يقال إن حجية القطع من المشهورات ومن بناء العقلاء لحفظ النوع الإنساني والنظم الاجتماعي إذاً في المناقشة الأولى نفينا وجود النوع الإنساني وبقيت حجية القطع وفي الأمر الثاني نفينا حفظ النظم الاجتماعي عن بعض الأحكام، هذا تمام الكلام في مناقشة القول الأول للمحقق الأصفهاني "رضوان الله عليه" في نهاية الدراية[14]

وأما القول الثاني وهو قول المحقق العراقي "رضوان الله عليه" إنَّ حجية القطع ثابتة بإلزام العقل وبحكم العقل يَرد عليه هذا الإشكال السيَّال الذي ذكره المحقق الأصفهاني وسار عليه مشهور المعاصرين وأكثر من تأخر عنه، من أن الحكم من شأن الحاكم والعقل ليس من شأنه الحكم وإنما من شأنه الادراك فالحكم إنما يكون لصاحب السلطة والهيمنة والعقل لا سلطنة له وإنما يدرك الأشياء ويكشف حقيقة الأشياء فيرد على القول الثاني من أن حجية القطع بإلزام العقل وبحكم العقل، العقل يدرك كاشفية القطع، ولا يلزم بالجري على وفق القطع فالعقل شأنه الادراك ليس إلا وأما الإلزام والبحث التشريعي فهذا من شأن المولى.

نعم الإنسان يتحرك نحو الشيء إذا وجد فيه نفعاً والدافع له والمحرك له حب النفس فإذا وجد نفعاً تحرك نحوه وإذا وجد ضرراً أحجم عنه، فالإنسان يتحرك نحو المنفعة ويحجم عن المضرة ليس لإلزام العقل وإنما المنشأ فيه حب النفس وإرادة النفس وهذا لا اختصاص له بالإنسان بل الحيوان بفطرته يحب نفسه ويتحرك الى ما يراه نفعاً له ويتجنب ما يدرك ضرره وبالتالي حب النفس وإن كان يحرّك الإنسان الى ما ينفعه لكن هذا التحريك تحريك تكويني وليس تحريكاً تشريعياً، وبحثنا في المحركية التشريعية وليس في المحركية التكوينية، ولذلك قلنا في بداية الدرس إذا كان المراد بالمحركية المحركية التكوينية فهذا خارج عن بحثنا في الأصول لذلك كما خرج الأمر الأول أن القطع أمر نفساني يخرج الأمر الثالث المحركية، لكن هذه الثلاثة تبحث في الأصول لأن المراد المحركية التشريعية فتبحث كاشفية القطع أولاً ومحركيته ثانياً وحجيته ثالثاً، هذا تمام الكلام في مناقشة القول الثاني.

القول الثالث وهو أن حجية القطع لازم عقلي ذاتي للقطع وأن العقل يدرك حسن العمل بالقطع وقبح مخالفة القطع ويدرك العقل صحة عقاب المولى لعبده المخالف لقطعه، ويدرك العقل أيضاً عدم صحة عقاب المولى للعامل بقطعه إذا انكشف أن قطعه مخالف للواقع، إدراك العقل لحجية القطع لا يكون بجعل جاعل لأن الحجية لازم ذاتي ولا يكون ببناء العقلاء فالحجية للقطع ليست من الأمور المجعولة ولا من القضايا المشهورة بل من الأمور الواقعية الأزلية كما هو الحال في سائر الملازمات العقلية، هذا تمام الكلام في الجهة الثانية حجية القطع اختار السيد الخوئي القول الثالث وسيتضح أن الصحيح هو القول الرابع الذي اختاره شهيد العصر السيد محمد باقر الصدر واختاره أيضاً الشيخ محمد اسحاق الفياض في الجزء السابع من المباحث الأصولية[15] ، ولكن لم يشر الى الشهيد الصدر وذكر بيان آخر ولكن روح كلام الشيخ الفياض المرجع المعاصر "حفظه الله" وكلام الشهيد الصدر وإن كان كلام الشهيد الصدر أدق وأكثر تفصيلاً وجذر كلام الشهيد الصدر موجود في كلمات المحقق العراقي وسيتضح من خلال الأبحاث الآتية، إن الكثير من آراء السيد الصدر "رضوان الله عليه" أصلها موجود في كلمات المحقق العراقي وتجدها أيضاً في كلمات السيد محمد الروحاني في كتابه منتقى الأصول ولكن توجد بنحو الإشارة ولكن السيد الصدر طرحها كنظرية مع التفصيل والتحقيق والتدقيق رحمة الله عليهم.

الجهة الثالثة والأخيرة بعد كون القطع من اللوازم العقلية بعد كون الحجية من اللوازم العقلية الذاتية للقطع امتنع المنع عن العمل به ولا يمكن للشارع المقدس أن يمنع ويردع عن العمل بالقطع لأنه يلزم منه اجتماع الضدين والمراد باجتماع الضدين اجتماع الضدين في الأصول وليس في المنطق اجتماع الضدين في الأصول يشمل الضدين المنطقيين والنقيضين المنطقيين.

نقول هكذا: إذا قطعت بوجوب الجمعة فهي حرام عليك كيف يقطع بوجوب الجمعة ويقطع بحرمة الجمعة هنا إذا هو قاطع بوجوب الجمعة لا يعتقد بحرمة الجمعة وإذا هو قاطع بحرمة الجمعة لا يعتقد بوجوب الجمعة سواء كان قطعه مصيباً للواقع أو مخالفاً للواقع فمن حيث اعتقاد القاطع يلزم اجتماع الضدين مطلقاً سواء طابق الواقع أو خالف الواقع، ولكن إذا لم ننظر الى اعتقاد القاطع ونظرنا الى مطابقة الواقع يلزم اجتماع الضدين في صورة المطابقة للواقع لا في صورة المخالفة.

إذاً نقول هكذا يلزم إذا فككنا بين الحجية وبين القطع يلزم اجتماع الضدين في اعتقاد المتكلمِ مطلقاً يعني سواء طابق القطع الواقع أو خالفه، ويلزم اجتماع الضدين بلحاظ الواقع إذا خالف الواقع يعني في خصوص صورة المطابقة للواقع دون صورة مخالفة الواقع، السيد الخوئي ذكر هنا عبارة صاحب الكفاية قال هكذا الجهة الثالثة إذ بعد كون الحجية من اللوازم العقلية للقطع امتنع المنع عن العمل بالقطع مع أنه يلزم منه اجتماع الضدين اعتقاداً مطلقاً، مطلقاً يعني في صورة مطابقة القطع للواقع وفي صورة مخالفة الواقع، ومطلقاً في صورة الاصابة يعني يلزم منه اجتماع الضدين مطلقاً في صورة الاصابة للواقع لا في صورة مخالفة الواقع، فمع القطع بوجوب شيء لا يعقل المنع عن تركه، هذا تمام الكلام في تقرير كلام السيد الخوئي واتضح أنه يرى عدم جواز الرد عن العمل بالقطع لبيانه هو، وهو أن الحجية لازم ذاتي بالقطع وسيتضح إن شاء الله عدم الجواز الرد عن العمل بالقطع لبيان آخر على تفصيل يأتي عليه الكلام.

 


[3] جواهر الأصول، السيد اللنگرودي، ج5، ص18.
[15] المباحث الأصولية، الشيخ محمد اسحاق الفياض، ج4، ص495.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo