< فهرست دروس

الأستاذ الشيخ نزار آل سنبل

بحث الأصول

42/02/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - خاتمة في شرائط العمل بالأصول العملية

البراءة النقلية:

تقدم الكلام في شرط البراءة العقلية، وقلنا بأن البراءة العقلية اشترط فيها الفحص وذكرنا الدليل الدال على الفحص، ولكن أشكل المحقق الأصفهاني (قده) على اشتراط هذا الشرط في البراءة العقلية، وتقدم الكلام في إشكاله الأول على البيان الأول، لأننا ذكرنا بيانين لوجوب الفحص، أحدهما يرتبط بنفس موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان يعني موضوع القاعدة هو عدم البيان والمقصود من البيان هو البيان المتعارف عند الشارع وهو أن يجعله في معرض الوصول إليه، فعليه: يجب الفحص للوصول إليه، يعني نفس الموضوع عدم البيان أُخذ فيه البيان المتعارف والبيان المتعارف أن يكون في معرض الوصول لا أن يصل إلى كل مكلف بشخصه وبنحو الإلزام والقهر، فالله تعالى يرسل الرسول صلى الله عليه وآله والرسول يبلغ والسائل المحتاج يذهب ويأخذ الحكم، المهم فمن هذا المعنى نعرف أنه لا بد من الفحص وهذا تقدم وتقدم الإشكال فيه والجواب عنه.

الوجه الثاني الذي أفيد: هو أن عدم الفحص في مثل هذه الموارد يكون ظلماً للمولى فعليه: يجب الفحص حتى لا يظلم مولاه ولا يقتحم هذا الحريم، وتقدم الفرق بين هذا الوجه والوجه السابق، يعني العقوبة في الوجه السابق تبتني على مخالفة الواقع أما العقوبة بالنسبة إلى الثاني فتبتني على نفس عدم الفحص لأنه هو يعتبر هتك للمولى وظلم له لأن الفحص هو عمل بوظيفة المولى وعدمه عدم العمل بوظيفة المولى فيكون ظلماً فيستحق العقوبة.

أورد على هذا الوجه المحقق الأصفهاني(قده) أيضاً بما حاصله: أن ظلم المولى يدور مدار التخلف عن التكليف الواصل، إذا كان التكليف واصلاً فالتخلّف عنه يكون ظلماً للمولى، وصول التكليف له أنحاء:

النحو الأول: أن يصل بعلم تفصيلي، أعلم تفصيلاً بالتكليف الشرعي، في هذا الفرض لا شك بأن التخلف عنه ظلم للمولى.

النحو الثاني: وصول التكليف بعلم إجمالي بعنوان جهة معلومة، مثلاً: يجب يوم الجمعة إما صلاة الظهر أو صلاة الجمعة، عندي علم بوجوب الصلاة ولكن هل هي صلاة الجمعة أو صلاة الظهر؟ لا أعلم بذلك، وصول التكليف بالعلم الإجمالي بهذا النحو مخالفته أيضاً تكون ظلماً للمولى، يعني هنا يجب الاحتياط على المكلف حتى لو لم نقا أنه يجب عليك الفحص للوصول إلى الواقع، يعني لو لم يرد أن يصل إلى الواقع تفصيلاً هنا يجب عليه الاحتياط فيصلي الجمعة ويصلي الظهر، إذاً مخالفة هذا النحو أيضاً تعتبر ظلماً للمولى.

النحو الثالث: هو أن يصل التكليف بالعلم الإجمالي بدون عنوان، لا بالنحو الثاني، مثلاً: أعلم بأن للشارع أحكام لموضوعات بدون علمي بأنها بالوجه الفلاني حتى إجمالاً، فقط أعلم بأن للشارع أحكاماً مرتبطة ومتعلقة بموضوعات متعددة، هذا العلم الإجمالي أيضاً إذا لم أعتنِ به يعتبر ظلم للمولى، لأني علمت بالتكليف غايته أني لا أعلم بأنه يتعلق بأي موضوعِ، مثل هذا النحو هذا العلم الإجمالي أيضاً مخالفته تكون ظلماً للمولى.

النحو الرابع: أن لا يوجد علم لا تفصيلي ولا إجمالي بقسميه وإنما يوجد احتمال محض فقط، أحتمل بوجود تكليف في هذا الموضوع مثلاً أو ذاك الموضوع مجرد احتمالٍ، محل بحثنا هو هذا النحو يعني أن أحتمل احتمالاً محضاً بوجود التكليف، في مثل هذا الفرض الذي هو محل فرضنا يقول المحقق الأصفهاني (قده) إذا لم يأتِ العبد بالاحتياط فلا يُعد ذلك تعدياً على المولى أو ظلماً للمولى، فرضنا من هذا القبيل، يقول: باعتبار أن فرضنا أننا كنا نعلم بوجود أحكام شرعية ترتبط بموضوعات الذي هو النحو الثالث، ثم فحصنا ووجدنا قسماً من الأحكام صار عندنا علم تفصيلي أو تفصيلي وإجمالي بمجموعة من الأحكام، انحل العلم الإجمالي وصار عندنا الآن احتمال محض بوجود أحكام، ومع وجود هذا الاحتمال المحض الذي هو مورد البراءة العقلية لا يكون عدم الفحص خروجاً عن زي العبودية ولا يكون ظلماً للمولى، فعليه: أنتم في الوجه الثاني تقولون: بأن عدم الفحص في مثل هذه الموارد خروج عن زي الرقّيّة ويكون ظلماً للمولى، هذا غير تام؛ لأن ما يكون خروجاً عن زي الرقّيّة في حال وصول التكليف بالعلم التفصيلي أو بالعلم الإجمالي إذا وُجد العنوان أو بالعلم الإجمالي بدون عنوانٍ، أما في حالة الاحتمال المحض الذي هو مورد الكلام والذي هو مورد جريان البراءة العقلية فلا يوجد عندنا تكليف واصل حتى نقول بأن مخالفة الفحص يُعد خروجاً عن زي الرقّيّة، هذا حاصل ما أفاده (قده) في الإشكال على الوجه الثاني.

ولكن يمكن أن يُدفع هذا الإشكال: بأن فرضنا الأساس من الأول هو أن طريقة المولى في بيان الأحكام الشرعية هو على البيان المتعارف وهو أن يجعل البيان في معرض الوصول أن يجعل الحكم في معرض الوصول، وأنت أيها المكلف تسعى إليه وتذهب إليه ولا تنتظر أن يأتيك التكليف لبيتك، الأحكام الشرعية بُلّغت بالنحو المتعارف وهي موجودة في مضانّها، فعليه: على المكلف أن يسعى ويذهب إليها لتحصيلها، على هذا الأساس نقول: بأن عدم الفحص خروج عن زي الرقّيّة، نحن بالأساس الأصل عندنا علم إجمالي الذي هو بالنحو الثالث في التفصيل، وهذا العلم الإجمالي استدعى أن نبحث في المضان ولما حصلنا على مجموعة من الأحكام أيضاً كل مورد قبل أن نجري البراءة فيه يحتاج إلى أن نبحث ونفحص إذا يأسنا من الظفر بالدليل عند ذلك نقول: قبح العقاب بلا بيان.

فما أفاده (ره) من أن عدم الفحص لا يعد خروجاً عن زي الرقّيّة غير تام، وهذا تمام الكلام في البراءة العقلية.

وخلصنا بهذه النتيجة: أنه يشترط في البراءة العقلية الفحص.

الكلام الآن يقع في البراءة النقلية:

البراءة النقلية التي هي التمسك بحديث الرفع (رُفع ما لا يعلمون)أطلق عليها البراءة النقلية، وفرق بين البراءة العقلية والبراءة النقلية، البرء العقلية أُخذ في موضوعها عدم البيان (قبح العقاب بلا بيان) أما في البراءة الشرعية فأُخذ في موضوعها عدم العلم (رفع ما لا يعلمون) ولم يُؤخذ في موضوعها البيان، هذه نقطة واضحة ومهمة ولا بد من الالتفات إليها.

الكلام طبعاً على حسب ما ذكره الأعلام، تارة يقع في البراءة النقلية في الشبهة الموضوعية وأخرى يقع في الشبهة الحكمية، والذي يظهر من غير واحد من الأعلام أنهم فرّقوا بين القسمين من جهة الفحص وعدمه، ففي الشبهة الموضوعية قالوا: بأنه لا يجب الفحص، وأما في الشبهة الحكمية فقالوا بوجوب الفحص.

ولكن قبل البحث في ذلك هنا نقطة ينبغي الانتباه إليها أولاً، وهي: أنه هل حديث الرفع له إطلاق بحيث يشمل ما قبل الفحص أو ليس له إطلاق؟ الآن نقول بغض النظر عن جريانه في الشبهة الحكمية أو جريانه في الشبهة الموضوعية، أساساً (رفع ما لا يعلمون) هل هو مطلق بحيث يشمل ما قبل الفحص؟ يعني ما قبل الفحص رفع ما لا يعلمون؟ أو هو ليس بمطلق ولا يشمل ما قبل الفحص؟

هذه نقطة مهمة في البحث، ما هي الثمرة في أن نبحث هل البراءة النقلية –رفع ما لا يعلمون- فيها إطلاق أو ليس فيها إطلاق؟

هنا تُذكر بحسب ما أفاد الشيخ الوحيد (حفظه الله) عدة ثمرات للبحث في هذه النقطة:

الثمرة الأولى: إذا قلنا بأن حديث الرفع له إطلاق فالمقتضي للبراءة موجود ويكون البحث بحثاً عن المانع، يعني إذا كان الإطلاق في رفع ما لا يعلمون تام فمعناه أن هذا بيان، والمقتضي للبراءة موجود، يبقى أنه نحن نبحث عن وجود المانع، هل يوجد مانع أو لا يوجد مانع؟ الآن سيأتي الكلام في وجوب الفحص وعدم وجوبه لكن وجوب الفحص على القول به لماذا؟ لأجل أنه هل يوجد مانع عن هذا الإطلاق أو لا يوجد مانع؟ أما إذا قلنا بأن حديث الرفع لا إطلاق فيه بحيث يشمل ما قبل الفحص، نقول: لا يشمل ما قبل الفحص ولا إطلاق فيه، فهنا أصل المقتضي للبراءة قاصر قبل الفحص، ولا تصل النوبة للبحث عن المانع، فإذاً هذه نقطة فارقة ملخصها: إذا قلنا بأن حديث الرفع مطلق فالمقتضي للبراءة قبل الفحص موجود والبحث إنما يكون عن وجود المانع، وأما إذا لم نقل بإطلاقه فالمقتضي للبراءة قاصر ولا تصل النوبة للبحث عن المانع.

الثمرة الثانية: أنه إذا قلنا بأن حديث الرفع له إطلاق فهذا يُعتبر بيان والبيان على نحوين: تارة البيان على التكليف، وتارة البيان على عدم التكليف، هنا إذا قلنا بأن حديث الرفع مطلق فهو بيان على عدم التكليف (رفع ما لا يعلمون) تصير بياناً على عدم التكليف فائدته أنه لا تصل إلى البراءة العقلية، يعني مادام حديث الرفع موجوداً وهو بيانٌ على عدم التكليف والبراءة العقلية أُخذ في موضوعها عدم البيان معنى ذلك مع وجود البراءة النقلية لا تصل النوية إلى البراءة العقلية.

أما إذا لم نقل بإطلاق حديث الرفع فالبراءة العقلية تكون في عرض البراءة النقلية وهذه أيضاً نقطة فارقة مهمة، حاصلها: إذا تم الإطلاق في حديث الرفع فالبراءة العقلية في طول البراءة النقلية، وإذا لم نقل بالإطلاق في حديث الرفع فالبراءة العقلية والنقلية في عرض واحد.

الثمرة الثالثة: إذا تم الإطلاق في حديث الرفع فبالنسبة إلى الشبهات الحكمية يوجد دليل على وجوب الفحص فيُقيَّد هذا الإطلاق، وأما بالنسبة إلى الشبهات الموضوعية فحيث لا يوجد دليل على وجوب الفحص فيكون الإطلاق في (رفع ما لا يعلمون) مقتضي بلا مانع، فإذاً: إذا قلنا بإطلاق حديث الرفع فالشبهات الحكمية عندنا الدليل -كما سيأتي- الدال على وجوب الفحص فيُقيد هذا الإطلاق بتلك الأدلة، وفي الشبهة الموضوعية حيث لا يوجد عندنا دليل على الفحص فالإطلاق يكون مقتضياً بلا مانع، وما عندنا مُقيد له.

أما إذا لم يتم الإطلاق: فبالنسبة إلى الشبهة الموضوعية يكون فيها احتمال التكليف موجوداً وإذا احتملنا التكليف هنا لا نجري البراءة النقلية بل لا بد من تحصيل مؤمّن آخر عنه.

هذه هي ثمرات الكلام في أنه هل أن لحديث الرفع إطلاق أو لا يوجد فيه إطلاق؟

إذا تمت هذه الجهة الآن نعود إلى هذا البحث الذي قلنا إنه بحث مهم، وهو: هل أن لحديث الرفع إطلاق أو ليس له إطلاق؟

هنا قولان في المسألة:

القول الأول: أن الإطلاق موجود.

القول الثاني: لا إطلاق في حديث الرفع بالنسبة إلى الشبهات الحكمية.

القول الأول وهو القائل بإطلاق حديث الرفع، ذهب إليه المحقق العراقي (قده) وأفاد في ذلك كدليل: أن الفقهاء تمسكوا في الشبهات الموضوعية قبل الفحص بحديث الرفع، قالوا: قبل لا يحتاج إلى فحص ونتمسك بحديث الرفع في الشبهات الموضوعية، استثنوا بعض الموارد مثلاً: نصاب الزكاة يعني لا بد من الفحص، أو مثلاً: الشخص الذي كان مديوناً لشخص وتردد بينه وبين غيره هنا أيضاً قالوا بلزوم الفحص، في باب الفروج والدماء أيضاً قالوا بلزوم الفحص، وفي غير هذه الموارد المخصوصة يرى الفقهاء إطلاق حديث الرفع وأنه تام، وعليه: يقول المحقق العراقي: إذا لم يكن في حديث الرفع إطلاقٌ فلا معنى للتمسك به في الشبهات الموضوعية قبل الفحص، فإذاً دليله يتلخص في هذا: أن الفقهاء تمسكوا بحديث الرفع في الشبهات الموضوعية ما عدى موارد خاصة لقيام دليل خاص وما عدا هذه الموارد الخاصة تمسكوا بحديث الرفع في الشبهات الموضوعية.

فلهذا نقول: إذا لم يكن حديث الرفع مطلقاً لماذا تمسكتم به في الشبهات الموضوعية قبل الفحص، حتى نقول في الشبهات الموضوعية لا مشكلة وفي الشبهات الحكمية لا بد من الفحص وأنه لا إطلاق فيه، لا بد وأن يكون على نسق واحد فإذاً: من هذا يقول نستكشف بأن حديث الرفع مطلق، هذا ما أفاده المحقق العراقي (قده).

طبعاً هنا يمكن أن يقال في الجواب عن المحقق العراقي (قده): بأن مستند الفقهاء في التمسك بالأصل والبراءة النقلية في الشبهات الموضوعية قبل الفحص ربما يكون غير البراءة النقلية، يعني عندنا أدلة أخرى مثل رواية مسعدة بن صدقة (والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة) يمكن أنهم تمسكوا بهذا الدليل ونحوه، ونفس احتمال ذلك كافٍ، يعني ما لم يصرّحوا بأن مستندنا في التمسك بالبراءة قبل الفحص في الشبهات الموضوعية هو حديث الرفع، لا يمكن أن نحمّلهم أنهم تمسكوا به فلهذا يكون مطلقاً، لا، عندنا أدلة أخرى يستفاد منها عدم الفحص في الشبهات الموضوعية ومنها مثل رواية مسعدة بن صدقة مطلقة، فعليه: لم ينحصر الدليل في خصوص حديث الرفع حتى تقول: استندوا إليه إذاً هو مطلق وإلا لا معنى لاستنادهم إليه، نقول: لا، نقول بعدم إطلاقه ونستند إلى دليل آخر.

فإذاً: ما أفاده لا يصلح أن يكون وجهاً للتمسك بالإطلاق.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo