< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/06/27

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر

الأمر الثالث: مدلول ومفاد الجملة التركيبية لهذا الحديث الشريف، الجملة المركبة من(لا) و (الضرر)، ما ذا يُفهم من هذه الجملة التركيبية ؟ يبدو أنّ المحتملات الرئيسية في المقام، ثلاثة أو أربعة، وإنّما نقول رئيسية باعتبار أنّ هناك محتملات أخرى فرعية طولية هي في طول واحدٍ من هذه المحتملات الرئيسية وليس في عرضها، بمعنى أنّ أحد المحتملات قد يتفرّع إلى احتمالين:

الاحتمال الأول: ما ذهب إليه الفاضل التوني في الوافية وتعرّض إليه الشيخ في الرسائل، وحاصله: أن يكون المقصود بهذه الجملة التركيبية (لا ضرر) هو نفي الضرر غير المتدارك، الضرر على نحوين، مرّة يُتدارك هذا الضرر، والحديث ليس ناظراً إلى الضرر المتدارك، وإنّما هو ناظر إلى الضرر غير المتدارك، فهو ينفي الضرر غير المتدارك. وهذا الاحتمال الأول له تقريبان: [1]

التقريب الأول: أن يقال أنّ المراد بالضرر المنفي بالحديث هو عبارة عن الضرر الخاص، الذي هو حصّة خاصّة من الضرر، وهي عبارة عن الضرر غير المتدارك، ويكون المراد الجدّي من نفي الضرر غير المتدارك هو بيان لازم نفي الضرر غير المتدارك، أنّ الضرر غير المتدارك لا وجود له، ولازمه هو أنّ كل ضرر موجود فهو متدارك؛ لأنّ الحديث ينفي وجود الضرر غير المتدارك ولازم ذلك أنّ كل ضرر موجود هو ضرر متدارك، وإلاّ يكون خلاف الحديث؛ لأنّ الحديث يقول لا وجود لضرر غير متدارك، فكل ضرر موجود لابدّ أن يكون متداركاً، ومن هنا يستفاد من الحديث وجوب الضمان والتدارك، فيكون هذا هو مفاد الحديث، غاية الأمر أنّ الحديث عبّر عن ذلك بهذا الأسلوب، بدلاً من أن يقول يجب الضمان وتدارك الضرر، عبّر عن ذلك بنفي الضرر غير المتدارك، أي لا يوجد ضرر غير متدارك، هذا معناه أنّ كل ضرر موجود لابدّ أن يكون ضرراً متداركاً، وهذا كناية عن وجوب التدارك، فهذا هو معنى الحديث . هذا هو التقريب الأول لما يريد أن يقوله صاحب الوافية.

التقريب الثاني: أنّ المقصود بالضرر المنفي في الحديث الشريف ليس هو حصّة خاصة من الضرر، وإنّما هو مطلق الضرر، لكن هذا النفي إنما يصح مع أنه في الخارج يوجد ضرر غير متدارك، والضرر في الخارج على قسمين، قسم منه متدارك، والقسم الآخر غير متدارك، فكيف يصح نفي وجود الضرر، يعني مطلق الضرر ؟ إنّما صح هذا النفي للطبيعة باعتبار تحقق التدارك في الخارج، الأضرار التي تقع في الخارج فُرض تحقق التدارك فيها؛ ولذا صحّ بهذا اللّحاظ نفي الضرر مطلقاً؛ لأنّ الضرر في الخارج إذا تحقق التدارك فيه لا يصدق عليه أنه ضرر عرفاً، وإن كان بالدقة العقلية هو ضرر، لكنّه إذا تمّ تداركه لا يصدق عليه أنه ضرر عرفاً. إذن: يصح أن ننفي وجود الضرر في الخارج مطلقاً؛ لأنّ الضرر المتدارك ليس ضرراً، فيتوجه النفي إلى الضرر غير المتدارك، ويكون المقصود من نفي الضرر غير المتدارك هو ما تقدّم سابقاً من أنّه كناية عن لزوم التدارك، فكأنّ الحديث الشريف في التقريب الأول يقال بأنه ابتداءً هو نفى الضرر غير المتدارك، أي أنّ الضرر غير المتدارك لا وجود له في الخارج، وهذا معناه أنّ كل ضرر موجود في الخارج هو متدارك، وهذا يصير كناية عن وجوب التدارك ووجوب الضمان. أمّا التقريب الثاني، فيقول لا داعي لتخصيص الضرر المنفي في الحديث بالحصّة الخاصة، وإنّما الضرر المنفي هو طبيعة الضرر، لكن حيث أنّ الضرر المتدارك في الخارج هو بحكم العدم، فكأنّ الضرر المتدارك لا وجود له في الخارج؛ لعدم صدق الضرر عليه، فيبقى الضرر غير المتدارك، وهو ما ينفيه الحديث. فبالنتيجة على كلا التقديرين يكون الحديث الشريف كناية عن وجوب التدارك. هذا هو تقريب ما ذكره صاحب الوافية، وقد ذكره في الوافية بعبارة مختصرة جداً، يعني تحتمل كلا التقريبين.

بناءً على الاحتمال الأول بكلا تقريبيه قد يقال أنّ الحديث حينئذٍ سوف يختص بموارد الإضرار بالغير ولا يشمل الضرر على النفس، حيث أنّ الضرر على نوعين، تارة الضرر على زيد ــــ مثلاً ــــ يأتيه من الغير، وتارة أخرى هو يلحقه الضرر، اي يلحقه نقص في بدنه أو في ماله ليس من الغير، كما لو تمرّض، أو ضاعت أمواله......وهكذا، فلا يوجد ضرر من الغير، الحديث الشريف يختص بالأول، أي بالإضرار بالغير، هذا الضرر هو الذي ينفيه الحديث ويقول بوجوب تداركه، بقرينة وجود التدارك، فلا معنى للقول بالتدارك في النوع الثاني من الضرر، وهو الضرر الذي يلحق الإنسان ليس من الغير، فإذا تمرّض ــــ مثلاً ــــ فمن الذي يقوم بالتدارك، أو يسد النقص الذي لحقه ؟ الحديث بناءً على هذا الكلام سوف يختص بخصوص الإضرار بالغير، فيقال: أنّ الغير إذا أضر بالإنسان وألحق به الضرر والنقص يجب عليه أن يتدارك هذا النقص، فيكون الحديث مختصّاً بهذه الحالة ولا يشمل الضرر الذي يلحق بالإنسان، فلا معنى لأن ينفيه بهذا المعنى؛ لأنّه لا معنى للتدارك في الحالة الثانية.

لكن هناك محاولتان لتعميم الحديث حتى للحالة الثانية وعدم اختصاصه بحالة الإضرار بالغير:

المحاولة الأولى: أنّ (لا) في الحديث نافية وليست ناهية كما هو مقتضى القواعد الأولية؛ إذ أنها لم تدخل على الفعل المضارع حتى تكون ناهية، وإنّما دخلت على الاسم، ومقتضى الظهور الأولي حينئذٍ أن تكون نافية. وهذا معناه أنّ الحديث يكون نافياً للضرر غير المتدارك بناءً على هذا الاحتمال، سواء قلنا بالتقريب الأول أو قلنا بالتقريب الثاني، على كل حال هو ينفي الضرر غير المتدارك؛ فإذا كان هذا الضرر من فعل الغير؛ حينئذٍ يثبت وجوب التدارك ولا مشكلة في هذا. وأمّا إذا كان الضرر ليس من الغير، وإنّما كان الضرر مسبباً عن الحكم الشرعي، إمّا أن يكون نفس الحكم الشرعي فيه ضرر، أو امتثاله والالتزام به يكون فيه ضرر، على كلا التقديرين الضرر يكون مسببَاً عن الحكم الشرعي، في هذه الحالة يكون لازم نفي الضرر غير المتدارك في هذه الحالة هو نفي الحكم الضرري؛ لأنّ المفروض أنّ الضرر مسببّ عن الحكم الشرعي، فيكون الحكم ضررياً كوجوب الغسل بالماء ووجوب القيام في الصلاة في حالات معينة وأمثاله، فإذا قلنا بأنّ هذا الحكم الشرعي لا ينتفي، فهذا معناه أنّ الضرر غير متدارك، وهذا ينافي الحديث الذي ينفي الضرر غير المتدارك، فأنه ينفي الضرر غير المتدارك، وكل ضرر هو متدارك، وهذا في باب الإضرار بالغير قلنا أنّه يجب على الغير التدارك، فلا يكون الضرر غير متدارك، وإنما يكون متداركاً، لكن في باب المرض وعدم تمكنه من الاغتسال بالماء وأمثاله، الحكم الشرعي يقول له يجب عليك أن تغتسل بالماء، هنا الضرر يأتيه من الحكم الشرعي؛ وحينئذٍ نكون بين أمرين: إمّا أن نقول أنّ الحكم الشرعي ينتفي، وإمّا أن نقول أنّ هذا الحكم الشرعي باقٍ، لكن يكون الضرر غير المتدارك موجود، وهذا ينافي الحديث؛ لأنّ الحديث يقول(لا ضرر) ينفي الضرر غير المتدارك، وطريقة تصديق الحديث هو كون الضرر في المقام غير متدارك، أي لا وجود للضرر غير المتدارك هو أن نقول أنّ الحكم الضرري منتفٍ، فلا يجب عليه الغسل في حالةٍ معينة، وبهذا يكون الحديث دالاً على وجوب التدارك في موارد الإضرار بالغير، ويدلّ على نفي الحكم الضرري في موارد الضرر على الشخص نفسه، وهذا تعميم للحديث لغير موارد الإضرار بالغير، حتى في باب الضرر على النفس يمكن تطبيق الحديث، لكن ينتج نفي الحكم الضرري.

المحاولة الثانية: هذه المحاولة تفترض أنّ الضرر المنفي في الحديث هو الضرر غير المحكوم بوجوب تداركه، بمعنى أنّ الضرر الذي يحكم الشارع بوجوب تداركه ليس ضرراً، خصوصاً إذا افترضنا أنّ الشارع له قوة إجرائية ويمكنه الإلزام بالتدارك.

بعبارةٍ أخرى: ما قلناه سابقاً من أنّ الضرر مع تداركه خارجاً لا يصدق عليه الضرر، هنا توسعة لهذا، فيقال أنّ عدم صدق الضرر عرفاً لا يتوقف على التدارك الخارجي، وإنّما يكفي فيه أن يحكم الشارع بوجوب التدارك مع وجود قوة إجرائية، هذا الحكم الشرعي هو كافٍ لأن يقال أنّ الضرر هذا ليس ضرراً؛ لأنّه ضرر حكم الشارع على العباد بوجوب تداركه، فلا يكون ضرراً. إذن: الضرر المنفي بالحديث هو الضرر الذي لا يحكم الشارع بوجوب تداركه، أمّا الضرر الذي يحكم الشارع بوجوب تداركه فليس ضرراً، فكما أننا كنّا نقول أنّ الضرر المُتدارك خارجاً ليس ضرراً، هنا أيضاً نقول أنّ الضرر الذي يحكم الشارع بوجوب تداركه هو ليس ضرراً.

بناءً على هذا، الضرر الذي لا يحكم الشارع بوجوب تداركه، الحديث الشريف يقول أنّه منفي. يعني كل ضرر موجود لابدّ أن يحكم الشارع بتداركه؛ لأنّ الضرر الذي لا يحكم الشارع بوجوب تداركه منفي بالحديث (لا ضرر)، يعني (لا ضرر) غير محكوم عليه بوجوب التدارك من قبل الشارع، يعني ليس هناك ضرر لا يحكم الشارع بوجوب تداركه. إذن: كل ضرر يحكم الشارع بوجوب تداركه.

وحينئذٍ يقال في محل الكلام: إذا كان الضرر في الحالة الأولى بسبب الغير، فالشارع يحكم بوجوب تداركه على الغير، وأمّا إذا كان الضرر في الحالة الثانية ناشئاً من الشارع، أي من الحكم الشرعي، هنا أيضاً يجب التدارك على الشارع، فكما أنّ الغير يجب عليه أن يتدارك إذا كان الضرر ناشئاً من الغير، كذلك الضرر الذي ينشأ من الحكم الشرعي أيضاً لابدّ من ان يتداركه الشارع، فالشارع هو الذي يسد هذا النقص؛ لأنّ الضرر نشأ من ناحيته، إذا لم نقل في المحاولة الأولى أنّ الحكم الضرري ينتفي، إذا كان الحكم الضرري ينتفي؛ فحينئذٍ سوف لن يقع في الضرر، أمّا هنا فالحكم الضرري لا ينتفي، فيجب عليه أن يلتزم بالحكم الشرعي، لكن الشارع هو الذي يتدارك هذا الضرر، فبالنتيجة يصح أن يقال: لا ضرر غير محكوم بوجوب التدارك موجود في الخارج، وهذا يشمل الحالة الأولى وينتج وجوب التدارك على الغير، ويشمل الحالة الثانية وينتج وجوب التدارك على الشارع، وهذا قد يؤيّد ببعض الروايات الموجودة التي تقول أنّ الإمام(عليه السلام) هو مسئول عن كثير من الأمور التي تحصل للمكلفين، ويسد النقص الحاصل للمكلّف من بيت المال، هناك الكثير من الروايات بهذا المضمون، أنّ الدولة تتحمّل بعض الخسائر التي تلحق بالمسلمين.

الاعتراضات والمناقشات التي أُثيرت حول الاحتمال الأول:

الاعتراض الأول: وهو ما ذكره الشيخ(قدّس سرّه) في الرسائل، حيث ذكر بأنّ بعض الفحول ـــــ حسب تعبيره ـــــ ذهب إلى هذا الرأي، ولكنّ الشيخ(قدّس سرّه) جعله أردأ الاحتمالات، وناقشه بهذه المناقشة: وهي أنّ التدارك إنما يمنع من صدق الضرر عرفاً إذا تحقق في الخارج، وأمّا مجرّد أنّ الشارع يحكم بوجوب التدارك، فهذا سوف لن يمنع من صدق الضرر عرفاً، فيكون الضرر صادقاً، وإنّما الذي يمنع من صدق الضرر هو تحقق التدارك خارجاً، وكأنّ الذي يفهمه الشيخ من صاحب الوافية، أنّ صاحب الوافية يريد أن يقول أنّه بمجرّد أن يحكم الشارع بوجوب التدارك، هذا يصحح نفي الضرر. [2]

أجيب عن هذه المناقشة:

الجواب الأول: افتراض وجود قوة إجرائية مع الحكم الشرعي كأنّه يجعل التدارك مضمون التحقق، فلا فرق بينه وبين التدارك خارجاً، كما أنّ الشيخ(قدّس سرّه) اعترف بأنّ التدارك خارجاً يمنع من صدق الضرر، الحكم الشرعي زائداً وجود قوة إجرائية أيضاً يمنع من صدق الضرر وإن لم يُتدارك خارجاً بالفعل، لكنّه يوجد حكم شرعي بوجوب تداركه، فيصح كلامه في نفي الضرر غير المتدارك بالحكم الشرعي بوجوب التدارك.

الجواب الثاني: أنّ الحكم الشرعي بوجوب التدارك في المقام المقصود به هو الضمان، يعني أنّ هذا الذي ألحق الضرر بالغير يكون ضامناً، يعني أنّ المضمون له يملك في ذمّة الضامن هذا النقص، هذا سوف يحقق التدارك ويمنع من صدق الضرر، الحكم الشرعي ليس حكماً شرعياً تكليفياً، يجب التدارك تكليفاً حتى نقول أنّ هذا الحكم الشرعي لوحده لا يكفي في تحقق التدارك وبالتالي منع صدق الضرر، وإنّما المقصود بذلك هو الحكم الوضعي، أي اشتغال الذمّة، هذا الذي يُلحق الضرر بالغير تشتغل ذمّته بالنقص الحاصل على الغير، بمعنى أنّ المضمون له يملك في ذمته هذا المقدار. إذن: المضمون له عُوّض، غاية الأمر لم يُعوض بشيءٍ خارجي، لكن هو ملك في ذمّة الضامن هذا المقدار، فيكون ضرره متداركاً، وإذا كان متداركاً، فهو يمنع من صدق الضرر ويصحح النفي في الحديث الشريف بأن يقول (لا ضرر غير متدارك)، فكل ضررٍ هو متدارك، ويكفي في ذلك الحكم الشرعي، لكن الحكم الشرعي الوضعي وليس التكليفي، فيندفع إشكال الشيخ(قدّس سرّه) من أنّ مجرّد الحكم الشرعي لا يمنع من صدق الضرر، فيصدق الضرر بالرغم من وجود حكمٍ شرعي؛ لأنّ هذا مبني على افتراض أنه حكم تكليفي، فلا يمنع من صدق الضرر، حتى لو فرضنا أنّ الذي ألحق الضرر بالغير يجب عليه التدارك، لكنّ وجوب التدارك لوحده لا ينفع الشخص الذي لحق به الضرر والنقص، لكن إذا حوّلنا الحكم إلى حكمٍ وضعي، بمعنى اشتغال الذمّة؛ حينئذٍ هذا ينفع في نفي الضرر، وبالتالي في منع صدق الضرر في محل الكلام.

الجواب الثالث: حتى لو سلّمنا أنّ الحكم الشرعي لوحده من دون افتراض شيءٍ فيه لا يمنع من صدق الضرر، لكن إذا افترضنا أنّ من حكم الشارع عليه بوجوب التدارك هو عبدٌ مؤمن ملتزم ومطيع؛ حينئذٍ هذا سوف يكون كافياً في ضمان تحقق التدارك في الخارج، فالحكم الشرعي موجود، والمُخاطب العباد المؤمنين الملتزمين المطيعين، إذن: سوف يتحقق التدارك في الخارج، وهذا يوجب نفي الضرر ويمنع من صدقه. فيندفع إشكال الشيخ(قدّس سرّه) بأحد هذه الوجوه الثلاثة.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo