< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

40/06/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: كتاب الإعتكاف، شروطه

قلنا أن السيد الماتن (قده) ذكر بأن إعتكاف الولد يتوقف على إذن الوالد أو الوالدة إذا كان موجباً لإيذائهما، فلذا يكون الإذن في هذه الصورة شرطاً في صحة إعتكافه. وهذا الكلام منه على إطلاقه حيث لم يقيد الإيذاء بالشفقة يحتاج إلى دليل يثبته. فعلى ما في المتن يحرم ويبطل الإعتكاف إذا كانا يتأذيان منه وإن لم تكن من جهة شفقتهما عليه، بل من جهة أمر يخصهما كما إذا كان إلتزام الولد بالأمور الدينية يوجب أذيتهما، لعدم رغبتهما بذلك، وترتفع الحرمة والبطلان بإذنهما.

لكن لا يوجد دليل يدل على حرمة الإيذاء بعنوان الإيذاء لكي يتمسك بإطلاقه، بل الموجود في الأدلة هو عنوان (المصاحبة بالمعروف) و(الإحسان) و(العقوق)، بل قلنا أن عنوان (الإطاعة) أيضاً لم يرد في دليل تام، فلذا لم يلتزم أحد بوجوب بإطاعتهما بمعناها الحرفي إذا لم ترجع إلى إعمال حق من حقوقهما. وذكر السيد الخوئي (قده) أنه لا دليل على حرمة ما يفعله الولد كالإعتكاف إذا كان هذا الفعل من شؤونه ولا يقصد به إيذاءهما، وهو الصحيح.

نعم، يمكن أن يقال أن الإعتكاف إذا أوجب صدق أحد العناوين المحرمة (كالإساءة أو التوهين أو العقوق) بالنسبة إلى الوالدين فيكون حراماً فلا يقع صحيحاً إلّا بإذنهما. لكن هذا ليس محل كلامنا، إذ نبحث عن الإعتكاف الذي لا يصدق عليه أحد العناوين المتقدمة، وأنه حينئذ هل تتوقف صحته على إذنهما أو لا.

 

الشرط الثامن من شرائط الإعتكاف

قال السيد الماتن (قده): (الثامن: استدامة اللبث في المسجد)[1]

معنى شرطية الإستدامة هو أنه لو خرج من المسجد بإختياره لا لحاجة بطل إعتكافه، كما هو الحال في سائر الشرائط، فإذا لم يأتِ بالصوم -الذي هو شرط فيه- يبطل أيضاً.

قد يقال أن أصل اللبث من مقومات الإعتكاف وداخل في حقيقته، فإذا إنتفى أصل اللبث تنتفي حقيقة الإعتكاف، لكن إستدامة اللبث ليست هكذا، بمعنى أنه لو خالف هذا الشرط وخرج من المسجد إختياراً لا لحاجة فتثبت الحرمة التكليفية فقط لا الوضعية.

لكن المعروف في كلماتهم أنه (الخروج من المسجد إختياراً لا لحاجة) يوجب بطلان الإعتكاف وقيل هو المشهور، وإستدل على ذلك بروايات، ونستطيع نقسمها على طائفتين:-

 

الطائفة الأولى: ما يكون لسانها لسان النهي عن الخروج من المسجد، وفيها عدة روايات:-

الأولى: صحيحة داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - قال: ولا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد الجامع إلا لحاجة لابد منها، ثم لا يجلس حتى يرجع، والمرأة مثل ذلك.[2]

الثانية: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لحاجة لابد منها، ثم لا يجلس حتى يرجع، ولا يخرج في شيء إلا لجنازة، أو يعود مريضاً، ولا يجلس حتى يرجع، قال: وإعتكاف المرأة مثل ذلك.[3]

الثالثة: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - قال: ولا يخرج المعتكف من المسجد إلا في حاجة.[4]

الرابعة: رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ليس للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا إلى الجمعة أو جنازة أو غائط.[5]

الطائفة الثانية: وهي منحصرة برواية واحدة وهي صحيحة داود بن سرحان قال: كنت بالمدينة في شهر رمضان، فقلت: لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أريد أن أعتكف، فماذا أقول؟ وماذا أفرض على نفسي؟ فقال: لا تخرج من المسجد إلا لحاجة لابد منها، ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى مجلسك.[6]

هذه الرواية عزلناها عن تلك الروايات بإعتبار أنه قد يفهم منها أن اللبث في المسجد طيلة الأيام الثلاثة مقوم لحقيقة الإعتكاف، لا أنه أصل اللبث في المسجد يكون مقوماً لها -بناءاً على تفسير الإعتكاف بأنه اللبث في المسجد-، بتقريب أن السؤال في الرواية وقع عن حقيقة الإعتكاف والإمام (عليه السلام) لم يجب إلا بقوله (لا تخرج من المسجد إلا لحاجة)، وهذا يعني أنه إذا خرج تنتفي حقيقة الإعتكاف ويبطل، وهذا المعنى غير موجود في باقي الروايات التي فقط تنهى عن الخروج من المسجد إلا لحاجة، بإعتبار أن اللسان الوارد فيها هو (لا ينبغي) و(لا يخرج)، فلسانها لسان النهي ومما يفيده، والظهور الأولي للنهي هو التحريم التكليفي ولا يفهم منه النهي الوضعي، لكنهم قالوا إنه وإن كان كذلك بحسب ظهوره الأولي لكنه حينما يتعلق بالعبادات المركبة ينعقد له ظهور ثانوي وهو الظهور في المنع الوضعي، أي الإرشاد إلى المانعية والفساد، كالنهي عن الكلام والإلتفات في الصلاة فيفهم منه مانعيتهما عن صحة الصلاة وهكذا في سائر الموارد الأخرى، وفي المقام عندما ينهى عن الخروج من المسجد يفهم من هذا الدليل أن الخروج مانع فيكون مبطلاً ومفسداً للإعتكاف، وصحيحة داود بن سرحان أوضح دلالة في نظرهم لأنها في مقام بيان حقيقة الإعتكاف على ما ذكروا.

بعض المحققين تأمل في هذا الإستدلال وإنتهى إلى نتيجة أن الخروج لا يكون مبطلاً للإعتكاف، وإنما تترتب عليه الحرمة التكليفية فقط، وأصل المناقشة هي أنه تارة يستدل على البطلان بالروايات التي تدل على النهي عن الخروج وهي أكثر الروايات كما قلنا، وأخرى يستدل بصحيحة داود بن سرحان التي تتضمن السؤال عن حقيقة الإعتكاف؛ أما الأول فالجواب عنه أن غاية ما يستفاد منها هو النهي عن خروج المعتكف من المسجد إلا لحاجة، وهذا يعني أن الخروج مناف للإعتكاف، وهذه المنافاة يمكن تفسيرها بتفسيرين:-

التفسير الأول: أن المنافاة ناشئة من تقوم الإعتكاف باللبث في المسجد وعدم الخروج منه، فيكون الخروج منافياً له بلا إشكال، وهذا التفسير يستلزم القول بالبطلان كما هو المشهور.

التفسير الثاني: أن تفسر المنافاة بأن المعتكف عندما نوى الإعتكاف فهو فرض على نفسه اللبث في المسجد، والشارع أمضى ما فرضه المعتكف على نفسه، ولذا يلتزم بصحة الإعتكاف ونفوذ ما فرضه على نفسه، وهذا لا يستلزم أكثر من تحريم نقضه وعدم الإلتزام بما التزم به على نفسه، فهو التزم على نفسه المكث فيحرم عليه الخروج ولا يستلزم بطلان العمل، ويكون هذا نظير المحرم بالحج، فنية الإحرام تعني أنه يفرض على نفسه الإمتناع عن محرمات الإحرام وهذا لا يستلزم أكثر من حرمة إرتكاب مخالفات الإحرام من دون بطلان حجه وإحرامه فيقع صحيحاً، غاية الأمر أنه إذا ارتكب محرمات الإحرام يقع في إثم وحرام، لأنه خلاف ما اقره على نفسه وقد أمضاه الشارع، وهو ليس من قبيل ما ورد في باب الصوم فإذا إرتكب المفطر يبطل الصوم، لأن هذا يكون للدليل الخاص الذي دل على أن هذه الأمور مفسدة للصوم، ومنه نفهم أن ترك هذه المفطرات مقوم لحقيقة الصوم. بل حقيقة الصوم هي ترك هذه المفطرات لوقت محدود، فإذا ارتكب واحداً منها يبطل الصوم، لكن في باب الإعتكاف لا يوجد لدينا دليل يدل على أن الخروج من المسجد يكون مبطلاً للإعتكاف فيحرم عليه الخروج من المسجد ولكن هذا لا يؤثر على إعتكافه.

وتؤيد التفسير الثاني الأدلة الكثيرة الدالة على حرمة الجماع على المعتكف وأن عليه ما على المظاهر من الكفارة، فهذه الأدلة يفهم منها -كما هو غير بعيد- أنها مختصة بالجماع خارج المسجد، وإذا نوقش في ذلك فإننا نقول أنها مطلقة تشمل حالة الجماع خارج المسجد وداخله، وهي من أدلة عدم البطلان، لأن الخروج من المسجد لو كان مبطلاً للإعتكاف فحينئذ لا وجه لتحرم الجماع عليه كما لا وجه لترتيب الكفارة على فعله، لأنه لم يفعل حراماً لبطلان الإعتكاف بالخروج.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo