< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

40/05/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: كتاب الإعتكاف

 

قال السيد الماتن (قده): (وينقسم إلى واجب ومندوب، والواجب منه ما وجب بنذر أو عهد أو يمين أو شرط في ضمن عقد أو إجارة أو نحو ذلك، وإلا ففي أصل الشرع مستحب)

استحباب الاعتكاف من الامور البديهية والضرورية التي لا اشكال فيها بين كل المسلمين، ووجوبه يكون بالعرض بنذر او عهد او غير ذلك مما ذكر في المتن، ومن دون افتراض انطباق احد هذه الأمور عليه يكون من المستحبات بحسب الأصل.

 

ثم قال (قده): (ويجوز الإتيان به عن نفسه وعن غيره الميت)

مسألة جواز الاتيان به عن نفسه فقد ذكرها السيد الماتن كمقدمة لبيان جواز الاتيان به عن الميت. اما بالنسبة الى الإتيان به عن غيره -أي النيابة، وهي أن يأتي الشخص بالفعل عن غيره بحيث يوجب تحقق الإمتثال وبراءة ذمة غيره- فقد ذكر الفقهاء ان القاعدة الأولية هى عدم الجواز وان النيابة عن الغير حياً او ميتاً تحتاج الى دليل، وذلك لأن الخطاب الشرعي سواء كان وجوبياً او ندبياً متوجه الى من خوطب به، فيدعو من خوطب به الى التحرك والإمتثال، فاذا تحرك المخاطب حينئذ يتحقق الامتثال ويكون الفعل مجزياً وتبرأ ذمة الفاعل، واما براءة ذمة المخاطب بهذا الخطاب بفعل شخص اخر لم يخاطب بهذا الخطاب تكون على خلاف القاعدة وخلاف ظاهر الخطاب، لان الظاهر من الادلة اعتبار المباشرة بمعنى ان الذي خوطب بالخطاب هو الذي لابد ان يباشر الامتثال حتى يكون مجزياً وتبرأ ذمته من ذلك التكليف، ومن هنا ذكروا ان النيابة في كل مورد لابد من اقامة الدليل عليها حتى نخرج به عن مقتضى القاعدة.

وكأن السيد الماتن (قده) فرض انه لا اشكال في جواز النيابة عن الميت ولم يذكر الخلاف فيه، وانما ذكر الخلاف في النيابة عن الحي، فذكر ان فيه قولين، ولعل السر في وضوح هذا المطلب بلحاظ الميت هو وجود روايات تدل على جواز النيابة عن الميت، ونذكر بعض هذه الروايات:-

 

الرواية الأولى: صحيحة عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) نصلي عن الميت؟ فقال: نعم حتى أنه ليكون في ضيق فيوسع الله عليه ذلك الضيق، ثم يؤتى فيقال له: خفف عنك هذا الضيق بصلاة فلان أخيك عنك، قال: فقلت: فاشرك بين رجلين في ركعتين؟ قال: نعم.[1]

 

الرواية الثانية: صحيحة معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما يلحق الرجل بعد موته؟ فقال: سنة سنها يعمل بها بعد موته فيكون له مثل أجر من يعمل بها، من غير أن ينتقص من أجورهم شيء، والصدقة الجارية تجري من بعده، والولد الطيب يدعو لوالديه بعد موتهما ويحج ويتصدق ويعتق عنهما ويصلي ويصوم عنهما، فقلت: اشركهما في حجتي؟ قال: نعم.[2]

وقوله (عليه السلام) (يحج و يتصدق و يعتق ....) هو موضع الشاهد.

 

الرواية الثالثة: صحيحة معاوية بن عمار الأخرى

قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أي شيء يلحق الرجل بعد موته؟ قال: يلحقه الحج عنه والصدقة عنه والصوم[3]

قالوا ان هذه الروايات ظاهرة في جواز النيابة عن الميت باعتبار التصريح فيها بالموت، ومقتضى اطلاقها هو انه لا فرق بين الواجبات والمستحبات في النيابة، فتجوز النيابة عن الميت في الواجبات والمستحبات.

وهناك روايات اخرى تذكر في محلها -الصلاة الإستئجارية- لا داعى للتعرض لها هنا.

 

قد يستشكل في الإستفادة من هذه الروايات في المقام: بان هذه الروايات ليست ناظرة الى النيابة، وانما ناظرة الى مسألة اهداء الثواب -واهداء الثواب شيء اخر غير ما نحن فيه، اذ النيابة هي ان ينوب عن الميت ويأتي بالفعل عن الغير، أما إهداء الثواب فهو أن يأتي بالفعل لنفسه فيكسب ثواباً، ثم يهدي هذا الثواب الى الميت، وهذا (إهداء الثواب) لا كلام في جوازه كما سيأتي-، لأنه ورد في بعض هذه الروايات ما مضمونه (ما يلحق الرجل بعد موته؟ فقال (عليه السلام) سنة سنها، وولد صالح يدعو له، وصدقة جارية تجري بعده الخ)، والمراد من الشيء الذي يلحق الميت هو الثواب.

 

ويمكن دفعه بأن نقول:-

أن الرواية الأولى ظاهرة في النيابة ولا داعي لتأويلها بإهداء الثواب، لأن إهداء الثواب للميت شيء والنيابة عنه شيء آخر، فإهداء الثواب لا يوجد فيه (صلاة عن الميت) كما وردت فيها، بل يصلي عن نفسه ثم يهدي ثواب الصلاة للميت، بخلاف النيابة فإنه يصلي عن الميت.

أما الروايتان الأخريان فلا يأتي فيهما الإشكال أيضاً، لأنها قالت يلحقه، فالذي يلحقه هو نفس العمل فتكون ظاهرة في النيابة.

فالإنصاف أنه لا إشكال في دلالة كثير من الروايات على جواز النيابة عن الميت في الجملة.

لكن الكلام يقع في وجود إطلاق يشمل الواجبات مضافاً إلى المستحبات، فقد يقال أن هناك إنصرافاً إلى خصوص المستحبات، خصوصاً الرواية الثانية المتقدمة التي جاءت في ضمن سياق أعمال مستحبة، ولكن يرده أن الروايتين الثالثة والأولى مطلقتان، ومقتضى الإطلاق هو عدم الإختصاص بالمستحبات.

 

قال السيد الماتن (قده): (وفي جوازه نيابة عن الحي قولان، لا يبعد ذلك بل هو الأقوى، ولا يضر اشتراط الصوم فيه فإنه تبعي فهو كالصلاة في الطواف الذي يجوز فيه النيابة عن الحي.)[4]

أما مسألة النيابة عن الحي فذكر (قده) أنه يوجد فيها قولان، ذهب هو وصاحب الجواهر إلى القول بالجواز، وذكر (قده) إشكالاً يرد على القول بالجواز وهو تضمن الإعتكاف للصوم، ولا دليل على جواز النيابة عن الحي في الصوم، وردّه بأن هذا لا يضر، لأن الإعتكاف هو اللبث في المسجد لغرض العبادة، والصوم تبعي فيه، ونظّر له بجواز النيابة في الطواف مع تضمنه للصلاة، ولا دليل على جواز النيابة عن الحي فيها، فالسيد الماتن (قده) نظّر للجواز، لكن لم يذكر دليلاً على الجواز في موردنا.

والقول الثاني هو عدم الجواز، أختاره كاشف الغطاء في كشفه وأصر عليه، واستدل له بأن جواز النيابة عن الغير خلاف مقتضى القاعدة ولا يجوز الخروج عنه إلا بدليل، وفي موردنا لا يوجد دليل على الجواز، فمقتضى القاعدة هو عدم الجواز .

 

أما بالنسبة للقول بالجواز فقد أشكل السيد الخوئي (قده) على ما ذكره السيد الماتن (قده) بعدم إنبغاء صدور هذا منه، فلا ينبغي أن ينظر لمحل الكلام بمسألة الطواف، وذلك لوجود الفارق بين المقامين وهو وجود النص في الطواف وعدم وجوده في محل الكلام، فالقاعدة تقتضي عدم الجواز في مقامنا.

نعم، هناك عدة روايات قد يستدل بها على جواز النيابة عن الحي، وذكر بعضها الشيخ صاحب الوسائل في الباب الثاني عشر من أبواب قضاء الصلوات، والعمدة فيها الرواية الأولى، وهي ما رواه الشيخ الكليني عن عدة من أصحابه، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن الحكم بن مسكين، عن محمد بن مروان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين وميتين يصلي عنهما، ويتصدق عنهما، ويحج عنهما، ويصوم عنهما فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك، فيزيده الله عز وجل ببره وصلته خيراً كثيراً.[5]

 

هذه الرواية غير تامة سنداً، فإن (محمد بن علي) مشترك بين الضعيف وغيره إن لم نقل أنه (محمد بن علي الكوفي المكنى بأبي سمينة) الضعيف جداً، فالرواية على كل حال تسقط عن الإعتبار. أما (الحكم بن مسكين) وإن لم يوثق ولكنه ثقة عندنا، لرواية المشايخ الثلاثة عنه بسند صحيح، فهو عند من لا يقول بوثاقة من يروي عنه المشايخ الثلاثة -كالسيد الخوئي (قده)- لا يكون ثقة. ووجود اسمه في أسانيد كامل الزيارات أيضاً لا ينفع لإثبات وثاقته عند السيد الخوئي (قده). و(محمد بن مروان) أيضاً يكون مشتركاً بين الثقة وغيره؛ ودعوى أنه هو (مروان بن محمد) الثقة، مدفوعة، لأن (محمد بن مروان) الثقة هو من أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام)، والحال أن ما ورد في الرواية هو من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام).

أما من حيث الدلالة، فالإستدلال بالرواية على جواز النيابة عن الحي مبني أولاً على أن قول الإمام (عليه السلام) (يصلي عنهما، ويتصدق عنهما، ويحج عنهما، ويصوم عنهما) يرجع إلى الوالدين، فيشمل حالتي الممات والحياة فيهما، وهو الظاهر. وما إحتمله بعض من أن مرجع الضمير هو (ميتين) بإعتبار أنه أقرب خلاف الظاهر. وثانياً على أن المقصود من (فيكون الذي صنع) هو نفس العمل لا ثوابه، حتى تكون الرواية دالة على النيابة لا إهداء الثواب.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo